الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال الضحاك ومقاتل: المراد عمر بن الخطاب وذلك أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له وقال: «انطلق فوالله ما أنت بمنافق» يريد أن يسمع المنافقون ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا: ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم وإذا استأذناه أبى، فوالله ما نراه يعدل، قال ابن عباس: إن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له ثم قال: «يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك»، ولما كان في الاستئذان ولو لعذر قصور؛ لأن فيه تقديمًا لأمر الدنيا على أمر الدين أمره الله تعالى بأن يستغفر لهم بقوله تعالى: {واستغفر لهم الله} أي: الذي له الأمر كله بعد الإذن ليكون ذلك شاملًا لمن صحت دعواه وغيره، ثم علل ذلك ترغيبًا في الاستغفار وتطييبًا لقلوب أهل الأوزار بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي لا يخفى عليه شيء {غفور} أي: لفرطات العباد {رحيم} أي: بالتستر عليهم، ولما أظهرت هذه السورة بعمومها، وهذه الآيات بخصوصها من شرف الرسول ما أبهر العقول صرح بتفخيم شأنه وتعظيم مقامه بقوله تعالى: {لا تجعلوا} أي: يا أيها الذين آمنوا {دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} قال سعيد بن جبير وجماعة: معناه: لا تنادوه باسمه فتقولوا: يا محمد، ولا بكنيته فتقولوا: يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتوقير، فقولوا: يا رسول الله يا نبي الله، وعلى هذا يكون المصدر مضافًا لمفعوله، وقال المبرد والقفال: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض، فتتباطؤون عنه كما يتباطأ بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر بل يجب عليكم المبادرة لأمره، ويؤيده قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} النور، وعلى هذا يكون المصدر مضافًا للفاعل، وقال ابن عباس: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره، وروي عنه أيضًا: لا ترفعوا أصواتكم في دعائه، وهو المراد من قوله: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله} الحجرات، وقول المبرد كما قال ابن عادل: أقرب إلى نظم الآية.ولما كان بعضهم يظهر الموافقة ويبطن المخالفة حذر من ذلك بقوله تعالى: {قد يعلم الله} أي: الذي لا تخفى عليه خافية {الذين يتسللون منكم} أي: ينسلون قليلًا قليلًا ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء، ونظير تسلل تدرج وتدخل، وقوله تعالى: {لواذًا} حال أي: ملاوذين، واللواذ والملاوذة التستر يقال: لاذ فلان بكذا إذا استتر به، وقال ابن عباس: أي: يلوذ بعضهم ببعض، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة لاسيما في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار، وقد للتحقيق وتسبب عن علمه تعالى قوله تعالى: {فليحذر} أي: يوقع الحذر {الذين يخالفون عن أمره} أي: يعرضون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصرفون عنه بغير إذنه، وقال أبو بكر الرازي: الضمير في أمره لله؛ لأنه يليه، وقال الجلال المحلي: أي: الله ورسوله وكلٌ صحيح، فإن مخالفة أمر أحدهما مخالفة أمر الآخر {أن} أي: لئلا {تصيبهم فتنة} قال مجاهد: بلاء في الدنيا، وعن ابن عباس: فتنة قتل، وعن عطاء: زلازل وأهوال، وعن جعفر بن محمد: يسلط الله عليهم سلطانًا جائرًا {أو يصيبهم عذاب أليم} أي: وجيع في الآخرة.تنبيه: الآية تدل على أن الأمر للوجوب؛ لأن تارك الأمور مخالف للأمر، ومخالف الأمر يستحق العذاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك، ولما أقام تعالى الأدلة على أنه نور السموات والأرض وختم بالتحذير لكل مخالف أنتج ذلك أن له كل شيء فقال تعالى: {ألا إن لله ما في السموات والأرض} خلقًا وملكًا وعبيدًا، فإن قيل: ما فائدة ذكر عبيدًا بعد ملكًا؟أجيب: عنه إنما ذكر لئلا يتوهم أن ما لما لا يعقل فقط، ولما كانت أحوالهم من جملة ما هو له، وإنها بخلقه قال تعالى: {قد يعلم ما أنتم} أي: أيها المكلفون {عليه} أي: من الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق، وإنما أكد علمه بقد لتأكيد الوعيد، وذلك أنَّ قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما، فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قول بعضهم:
ونحوه يقول زهير: والمعنى: أن جميع ما في السموات والأرض مختص به تعالى فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين، وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها؟ وقوله تعالى: {ويوم} أي: ويعلم يوم {يرجعون إليه} فيه التفات عن الخطاب أي: متى تكون، أو ويوم يرجع المنافقون إليه للجزاء {فينبئهم} أي: فتسبب عن ذلك أنه يخبرهم {بما عملوا} أي: من الخير والشر فيجازيهم عليه {والله} أي: الذي لا تخفى عليه خافية {بكل شيء} أي: من أعمالهم وغيرها {عليم} عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبويها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن الغزل وسورة النور» أخرجه أبو عبد الله في البيع في صحيحه، وأما قول البيضاوي: تبعًا للكشاف: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي» فهو حديث موضوع. اهـ.
{فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي: يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك العمل بمقتضاه، وعديّ فعل المخالفة بعن مع كونه متعدّيًا بنفسه لتضمينه معنى الإعراض، أو الصدّ، وقيل: الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة، و{أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} مفعول يحذر، وفاعله الموصول.والمعنى: فليحذر المخالفون عن أمر الله، أو أمر رسوله، أو أمرهما جميعًا إصابة فتنة لهم {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الآخرة كما أن الفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم هي في الدنيا، وكلمة {أو} لمنع الخلوّ.قال القرطبي: احتجّ الفقهاء على أن الأمر للوجوب بهذه الآية، ووجه ذلك أن الله سبحانه قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} الآية، فيجب امتثال أمره، وتحرم مخالفته، والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن، وقيل: هي القتل، وقيل: الزلازل، وقيل: تسلط سلطان جائر عليهم، وقيل: الطبع على قلوبهم.قال أبو عبيدة، والأخفش: {عن} في هذا الموضع زائدة.وقال الخليل، وسيبويه: ليست بزائدة، بل هي بمعنى بعد، كقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} [الكهف: 50] أي: بعد أمر ربه، والأولى ما ذكرناه من التضمين.{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا في السموات والأرض} من المخلوقات بأسرها، فهي ملكه {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} أيها العباد من الأحوال التي أنتم عليها، فيجازيكم بحسب ذلك، ويعلم ها هنا بمعنى علم {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} معطوف على ما أنتم عليه أي: يعلم ما أنتم عليه، ويعلم يوم يرجعون إليه، فيجازيكم فيه بما عملتم، وتعليق علمه سبحانه بيوم يرجعون لا بنفس رجعهم لزيادة تحقيق علمه، لأن العمل بوقت وقوع الشيء يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} أي يخبرهم بما عملوا من الأعمال التي من جملتها مخالفة الأمر، والظاهر من السياق: أن هذا الوعيد للمنافقين {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} لا يخفى عليه شيء من أعمالهم.وقد أخرج ابن إسحاق، وابن المنذر والبيهقي في الدلائل، عن عروة، ومحمد بن كعب القرظي قالا: لما أقبلت قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الأسيال من رومة بئر بالمدينة، قائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان حتى نزلوا بنقمى إلى جانب أحد، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فضرب الخندق على المدينة، وعمل فيه المسلمون، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يورّون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لابد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك {إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله} الآية.وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال: هي في الجهاد والجمعة والعيدين.وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله: {على أَمْرٍ جَامِعٍ} قال: من طاعة الله عامّ.وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عنه في قوله: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول} الآية قال: يعني: كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه، ولكن وقروه وقولوا له: يا رسول الله يا نبيّ الله.وأخرج عبد الغني بن سعيد في تفسيره، وأبو نعيم في الدلائل عنه أيضًا في الآية قال: لا تصيحوا به من بعيدٍ: يا أبا القاسم، ولكن كما قال الله في الحجرات: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله} [الحجرات: 3].وأخرج أبو داود في مراسيله، عن مقاتل، قال: كان لا يخرج أحد لرعاف، أو إحداث حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بيده، وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج.فأنزل الله: {الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا} الآية.وأخرج أبو عبيد في فضائله، والطبراني، قال السيوطي بسندٍ حسن، عن عقبة بن عامر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة سورة النور، وهو جاعل على أصبعيه تحت عينيه يقول: {بكل شيء بصير}. اهـ.
|